كتب / أمين اليافعي
منذ توسّع أعمال القرصنة الحوثية ضد السُفن التجارية، ركّزت معظم التحليلات على مقاربة الأحداث في البحر الأحمر من منظور التفاعلات والتدافعات الإقليمية والدولية، وبطريقة تنازلية، أي من المنظور الدولي الأوسع، نزولاً إلى الإقليمي، ثم المحلي في أسفل درجات السلم. لهذا لم يُعطَ اهتمامٌ كافٍ للمقاربة القائمة على منظور تصاعدي، أي من المحلي إلى الدولي، مما يُغيّب عناصر مهمة ومحورية في الأزمة، فيؤدي في العادة إلى تفاقمها مع مرور الوقت، عوضا عن تطوير إستراتيجية مناسبة ليس للسيطرة عليها فحسب، ولكن للتعامل الناجع والحاسم مع “المشكلة الحوثية” ككل.
منذ اجتياح الحوثي للبلاد، وهروب “الحكومة الشرعية” إلى الخارج، حَرَصت الأخيرة في خطابها وتعاملها مع المجتمع الدولي على تقديم صورة “مستكينة” ظنّا منها بأن الحصول على شهادة حسن سيرة وسلوك سيُدبَّر لها أسباب الدعم الدولي المتين حتى تُعيد ضبط اليمن، وبكل أريحية وراحة بال، وفق مقدساتها المسماة بـ“المرجعيات الثلاث”: المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، مخرجات الحوار الوطني، وقرار مجلس الأمن 2216. لكن هذه الحكومة التي تسبح على محيط من الفساد الأخلاقي واللامسؤولية الوطنية لم تحصل قط على شهادة ابتدائية في السلوك الجيد، بل كانت الطرف الأوفر حظاً بالتعنيف في نظر خطاب هذا المجتمع الدولي، وعلى الدوام. وبسبب هذا المركب الثلاثي العجيب من التلاعب والتناقض والسُبات، جعلها في نهاية المطاف خاوية الوفاض من “بلح الشام وعنب اليمن”.
كما تستفيد إيران في وضع نفسها على الخارطة الإقليمية والدولية من خلال أعمال عدوانية، يستفيد الحوثي هو الآخر، مستغلا التحولات الكبيرة والجذرية في النظام العالمي
بلغت ذروة هذه الإعاقة والعمى في علاقة الشرعية بالمجتمع الدولي عند قبولها وتسليمها العبثي بشروط “اتفاقية ستوكهولم” التي منعت دخول الحديدة في العام 2018 وهو أمرٌ كان سيؤدي إلى إضعاف الحوثي كثيرا وربما إنهائه فضلاً عن كبح جماح قرصنته في المياه الدولية، وتحت ذريعة تبدو في منتهى السذاجة “تخفيف المعاناة الإنسانية”، أي وكأنه يُقال، وبشكلٍ واضحٍ وصريحٍ: بقاء الناس تحت سلطة الحوثي القمعية والكهنوتية أرحم بكثير من سيطرة الحكومة الشرعية على هذه المناطق!
على الطرف النقيض، المقابل، استفاد الحوثي كثيراً من هذا السياق الدولي المتدافع والشائك إلى درجة يبدو وكأنه صُمم تحديداً لخدمة مشروعه، وزادت استفادته بوجود نخبة سياسية تعيش منذ لحظة هروبها الأولى في موت سريري بالمعنى السياسي والوطني والأخلاقي. يعتمد الحوثي على التحرك الفاعل على الأرض، وعدم الالتزام بأي اتفاقيات أو معاهدات، متحرراً من أي اعتبارات أو تبعات إنسانية، ومتسلحاً بفكرة أن ما يجعل له قيمة في أي ترتيبات مستقبلية هو قدرته على إحداث الأذى وارتكاب الحماقات. مغامرته في البحر الأحمر لم تكن مُتصورة بأي حالٍ من الأحوال وفقاً لأي حسابات في الظروف العادية، لكن جرأته اتكأت على اطمئنان تام بعدم وجود أي جديّة في التعامل الحاسم معه من أي اتجاه مهما بلغت حماقاته. بل وأبعد من ذلك، بات يُدرك مُسبقاً بأن كل ما سيفعله سيصب في نهاية المطاف في ميزان مكتسباته على طاولة المفاوضات/الترتيبات المستقبلية، ومستفيداً / متكاملاً مع مغامرة حماس المدعومة من إيران في 7 أكتوبر لتعطيل كل المشاريع التي لا تتوافق مع المصالح الإيرانية؛ أي القول بأعلى وأغلظ صوت “نحن هنا، ويجب إعادة ضبط المنطقة على إيقاع نغماتنا”؛ ليكتفي حُراس النظام الدولي بدور المتفرج.
مغامرة الحوثي في البحر الأحمر لم تكن مُتصورة وفقاً لأي حسابات في الظروف العادية، لكن جرأته اتكأت على اطمئنان تام بعدم وجود أي جديّة في التعامل الحاسم معه من أي اتجاه مهما بلغت حماقاته
وكما تستفيد إيران في وضع نفسها على الخارطة الإقليمية والدولية ومن خلال أعمال عدوانية، يستفيد الحوثي هو الآخر، مستغلا التحولات الكبيرة والجذرية في النظام العالمي حيث تبدو كل قواعد وآليات الضبط والسيطرة غير فاعلة بالمرة، وقابلة للدحض والتشكيك، فهي لم تعد ناجعة في نظر مناصريها، ولم تعد شرعية في نظر معارضيها. هذه اللحظة البرزخية الكثيفة في النظام الدولي تُوفِّر ظروفاً مثاليةً للمبادرة والجرأة لفرض ما لم يكن بالمقدور فرضه – تحقيق ما لا يمكن تحقيقه – في الماضي، وبغض النظر عن الوسائل ومشروعية الأهداف. وفي ظل هذه الشروط، لن تكون هناك من ردة فعل سوى الاكتفاء بانتهاج “إتيكيت الطبطبة” الدولية مع الحمقى.
في هذا الصدد، عبّرت الحكومة الشرعية عن مدى افتقارها التام لفهم التحولات في النظام العالمي، والقدرة على استكناه طبيعة السياق الدولي وديناميكياته، وتشابكاته وتدافعاته، وهذا ما ظهر جلياً في الحديث (المستكين) لرئيس مجلس الرئاسة الأخير مع أحد القنوات التلفزيونية على هامش مؤتمر ميونخ للأمن، وهي بالتالي تفوّت كل الفرص الثمينة للتعامل الكفء مع المشكلة الحوثية.
لهذا السبب تبدو، وعلى الدوام، في حالة مُستعصية يُرثى لها بإصرارها العبثي في كل مناسبة على المرجعيات الثلاث كأساسٍ سحريٍّ لحلٍ سيُؤتى به عنوةً إلى مضاجعها في المنافي، مع أن الرسائل المحلية والإقليمية والدولية تقول لها في كل مرة، وبوضوحٍ شديدٍ، بأن “الضرب في الميت حرامٌ”!
نظرياً؛ لم يَعُد بالإمكان تطبيقها، وواقعياً وعملياً توفر خدمة حيوية لاستمرار تصعيد الحوثي وعلى أكثر من صعيد: فهي أولاً تكبح جماح أي قوى فتية جديدة يمكن أن تقلب ميزان القوة في اليمن، وثانياً تَحُوَل دون إحداث إفاقة إجبارية للنخبة السياسية عن طريق تخليصها من هذا المُخدِّر القاتل ودفعها لتخليق أدوات ووسائل وإستراتيجيات فاعلة وناجعة، وثالثاً إعادة التأكيد على أن الحل المحلي المتمثل بالمبادرة هو الحل الوحيد القادر على تخليص البلد والمنطقة والعالم من “إرهاب الحوثي.